لماذا روتين الصحة النفسية ينقذك من الانهيار؟: ضرورة يومية لا ترف مؤقت

في عالمٍ متسارعٍ ومليء بالضغوط، لم تعد الصحة النفسية رفاهية يمكن تأجيلها، بل أصبحت ركيزة أساسية للنجاة. وبينما نتحدث عن التغذية الصحية وممارسة الرياضة، يغيب عن كثيرين الاهتمام اليومي بالحالة النفسية، وكأنها كماليات لا تستحق أن نوليها عناية حقيقية.

الصحة النفسية ليست تلك الصورة المثالية التي تُروَّج في الإعلام عن الابتسام الدائم أو الشعور المستمر بالسعادة. بل هي القدرة على المواجهة، والتحمل، والمرونة، والتكيّف مع صعوبات الحياة دون الانهيار.

عندما يتجاهل الإنسان الإشارات الصغيرة مثل الحزن العابر أو القلق المتكرر، فهو يهيئ الأرضية لظهور اضطرابات أعمق مثل الاكتئاب أو الإدمان أو حتى التفكير في الانتحار. لذلك، فإن تجاهل الألم النفسي لا يُعد شجاعة، بل مخاطرة حقيقية.

في المجتمعات العربية، ومنها تونس، لا تزال الصحة النفسية تعامل كشيء ثانوي. في الوقت الذي يُهرع فيه الأفراد إلى الطبيب عند شعورهم بوجع جسدي، قلما يفكر أحدهم في زيارة معالج نفسي عند الشعور بالحزن أو التوتر أو العزلة.

في هذا المقال، نأخذك في رحلة عميقة لفهم أهمية تبني روتين نفسي يومي، ونقدّم لك خطوات عملية بسيطة لكنها فعالة، للحفاظ على توازنك الداخلي، والنجاة من الضغوط اليومية التي تحيط بنا من كل اتجاه.

 ما المقصود بالصحة النفسية حقًا؟

الصحة النفسية لا تعني غياب المشاكل النفسية، بل تعني القدرة على العيش بوعي واستقرار ورضا نسبي حتى في ظل التحديات. الشخص الذي يعاني من قلق أو اكتئاب يمكنه أن يتمتع بصحة نفسية جيدة إذا تعلم كيف يتعامل مع هذه المشاعر دون إنكارها.

تقول الأخصائية النفسية إيناس الشعنبي إن الصحة النفسية أشبه بمنحنى يتأرجح بحسب الظروف. فحتى أقوى الناس نفسيًا يمرون بلحظات ضعف، لكن الفرق هو في كيفية التعامل مع هذه اللحظات.

 لماذا لا نأخذ إشارات القلق بجدية؟

المجتمع يستهين بمشاعر مثل الحزن والقلق، ويعتبرها مجرد “دلع” أو “ضعف إيمان”. هذا التصور يدفع الكثيرين إلى كبت مشاعرهم أو تجاهلها، ما يؤدي لاحقًا إلى تفاقمها.

صفارات الإنذار النفسية التي نحس بها يوميًا – مثل الأرق، التعب، نوبات الغضب، فقدان الرغبة – ليست أمورًا عابرة دائمًا. هي إشارات من داخلنا تقول: “هناك شيء غير طبيعي”.

لكن عندما نُهمِل هذه العلامات، قد تتحوّل إلى أمراض نفسية حقيقية مثل الاكتئاب المزمن، الإدمان، اضطرابات النوم، وربما حتى التفكير في الانتحار. الصحة النفسية لا تنتكس فجأة، بل تنهار بالتدريج، بصمت، ونحن نظن أننا بخير.

 روتين الصحة النفسية: العمود الفقري للتوازن

وفق ما تؤكد عليه الشعنبي، فإن أهم عامل للوقاية النفسية هو بناء روتين يومي يشعرك بالأمان. الفوضى اليومية تُربك الدماغ، وتجعله في حالة تأهب دائمة، مما يرفع منسوب التوتر.

ما الذي يجب أن يحتويه روتينك؟

  • أوقات محددة للاستيقاظ والنوم: النوم ليس رفاهية، بل دواء. يجب أن تنام من 7 إلى 8 ساعات بجودة عالية.
  • وجبات منتظمة: التغذية تؤثر بشكل مباشر على المزاج. الغذاء المتوازن يعزز توازن الهرمونات.
  • ممارسة نشاط بدني يومي: حتى المشي لمدة 20 دقيقة يفرز هرمونات السعادة مثل الإندورفين والدوبامين.
  • الابتعاد عن الشاشات قبل النوم: الشاشات ترفع مستويات القلق وتقلل جودة النوم.
  • التعرض للضوء الطبيعي: يساعد على تنظيم الساعة البيولوجية ويحسن الحالة المزاجية.

 تمارين التنفس والاسترخاء: سلاح فعّال ضد التوتر

لا يحتاج الإنسان إلى ساعة كاملة من التأمل اليومي، بل يكفي أن يمنح نفسه خمس دقائق فقط من التنفس العميق صباحًا أو قبل النوم.

عند استنشاق الهواء ببطء، ثم إخراجه تدريجيًا، تنخفض مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر)، ويبدأ الجهاز العصبي في استعادة توازنه.

كما يمكن اعتماد تطبيقات التأمل أو مقاطع صوتية تساعد على الاسترخاء، خاصة في فترات الأزمات أو بعد يوم طويل ومرهق.

 الدعم الاجتماعي: لست وحدك

البشر بطبعهم كائنات اجتماعية، والانعزال يؤدي إلى الاكتئاب. العلاقات الصحية هي واحدة من أقوى أدوات الدعم النفسي.

مكالمة مع صديق، جلسة قهوة مع العائلة، أو حتى مجرد حديث مع زميل، كلها تعزز الإحساس بالانتماء وتقلل من وطأة الشعور بالوحدة.

لكن الأهم من كثرة العلاقات هو جودتها. فالعلاقات السامة، المليئة بالتقليل أو التوتر أو المقارنات، هي عبء نفسي وليست دعمًا.

 كيف تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في تدمير الصحة النفسية؟

الإفراط في استخدام الشاشات ووسائل التواصل يؤثر بشكل سلبي على التركيز والنوم والمزاج، ويغذي مشاعر عدم الرضا من خلال المقارنات اليومية غير الواقعية.

تقول الشعنبي: “يجب تحديد وقت بلا شاشات كل يوم، ويفضل الامتناع عن استخدامها في 3 أوقات: قبل النوم، عند الاستيقاظ، وأثناء الأكل”.

 كيف تفهم مشاعرك وتتعامل معها بوعي؟

الحزن، القلق، الغضب، الإحباط… كلها مشاعر بشرية طبيعية. لكن في ثقافتنا، تُعتبر هذه المشاعر دليل ضعف، ويُنصح الشخص غالبًا بكبتها أو إنكارها.

المطلوب هو العكس تمامًا. يجب أن تتعلم تسمية مشاعرك، وتفهم مصدرها، وتتقبل وجودها. عندما تتصالح مع مشاعرك، تفهمها، وتُعبر عنها، تقل نسبة التوتر، وتصبح أكثر وعيًا بتصرفاتك.

 الصحة النفسية للأطفال تبدأ من الآباء

الوالدان الذين يعانون من اضطرابات نفسية ولم يسعوا للعلاج، ينقلون الضغط والتوتر إلى الأبناء. الطفل الذي ينمو في بيئة مشحونة قد يطور مشاكل في التعلم، سلوكيات عدوانية، أو عزلة اجتماعية.

لذلك، علاج الوالد أولى من علاج الطفل في كثير من الحالات. فالأمان النفسي الذي ينشأ في المنزل، هو أساس بناء شخصية سليمة.

 الصحة النفسية في السياق التونسي: نظرة واقعية

في تونس، لا تزال الثقافة السائدة تقلل من أهمية العلاج النفسي، وتعتبر اللجوء إلى معالج “ترفًا لا حاجة له”. هذه النظرة لا تساهم فقط في تأخير التشخيص، بل تزيد من وصمة الاضطرابات النفسية.

الوعي يبدأ من المدرسة، من العائلة، من وسائل الإعلام. يجب أن نعيد تعريف القوة: القوة ليست في الكبت، بل في التقبل والعلاج.

 الخلاصة: صحتك النفسية هي رأس مالك
الصحة النفسية ليست ترفًا ولا رفاهية. هي وقود الحياة، وهي ما يمنحك القدرة على الاستمرار، التفكير، الإبداع، والتواصل. تبنّي روتين نفسي يومي هو أول خطوة نحو حياة أكثر توازنًا وسلامًا.

إياك أن تنتظر الانهيار كي تبدأ. لا تستخف بإشارة صغيرة، ولا تظن أنك وحدك في هذا الطريق. أطلب المساعدة، وامنح نفسك العناية التي تستحقها، لأنك تستحق أن تعيش، لا أن تنجو فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى