وداعًا يا صانع الفخر.. عبد الرحمان بورحيم بين الذاكرة الشعبية والسينما
في صبيحة حزينة من صباحات المغرب، خيّم الحزن على الأوساط الفنية والثقافية بـ وفاة أحد الرموز الذين أعطوا الكثير للهوية الأمازيغية، الفنان والشاعر والسيناريست عبد الرحمان بورحيم، المعروف بـ “أوتفنوت”. لم يكن مجرد اسم فني بل كان ذاكرة حيّة، صوتًا ينتمي إلى الأرض، وإرثًا ممتدًا من حلقة الشارع إلى أفلام الشاشة الفضية.
بوفاته، طُويت صفحة من صفحات النضال الثقافي والإبداع الشعبي الذي نبت في الحارات، وتشكل من نبض الناس، واحتفظ بملامح الأصالة والوفاء للهوية. فالرجل لم يكن فنانًا عابرًا، بل كان بمثابة مرآة تعكس معاناة وتطلعات شعب، وسفيرًا غير معلن للثقافة الأمازيغية في كل تجلياتها.
من هو عبد الرحمان بورحيم ويكيبيديا السيرة الذاتية؟ سيرة حياة من الطين إلى المجد
ولد عبد الرحمان بورحيم سنة 1938، في مغرب تقليدي لا تزال الهوية الأمازيغية فيه حبيسة اللهجات المحلية وأزقة القرى، قبل أن تتحول لاحقًا إلى صوتٍ ثقافيٍ وطنيٍ جامع. ترعرع في بيئة متواضعة، وتشكل وعيه الفني في أحياء مثل درب غلف والحي المحمدي، حيث كان الناس يتجمعون حول “فن الحلقة”، ذلك المسرح الشعبي الذي كان يُمارس في الهواء الطلق، بلا خشبة، ولا مكبرات صوت.
لم يكن بورحيم فنانًا نمطيًا تلقى تعليمه في المعاهد الفنية، بل علّمه الشارع فن الإلقاء، وعلمته الحياة حروف الشعر والمقاومة. اختار منذ بداياته أن يكون “صوت الناس”، يستقي من معاناتهم، ويفضح آلامهم، ويغني لحكاياتهم، فكان بذلك صادقًا حدّ النخاع.
مسيرة فنية امتدت لأكثر من ستة عقود
بدأ عبد الرحمان بورحيم مسيرته الفنية رسميًا سنة 1961 من خلال مشاركاته في “الحلقة الشعبية”، ذلك الفضاء الإبداعي الذي لا يعترف بالمؤسسات، بل بالموهبة والتفاعل مع الجمهور. وقدّم عروضه في درب غلف والحي المحمدي وغيرهما من الأحياء المغربية التي كانت تنبض بالحياة والفن التلقائي.
لكن النقلة النوعية في مسيرته كانت خلال سبعينيات القرن الماضي، حين اتجه لإنتاج أشرطة الأناشيد الدينية باللغة الأمازيغية، وهي تجربة فريدة من نوعها في تلك الفترة. فقد سعى إلى تقريب الدين من وجدان الناس بلغتهم الأم، ونجح في إصدار أكثر من 50 شريطًا.
إنتاج غزير وهوية راسخة
لم يكن بورحيم فنانًا يبحث عن الشهرة، بل عن الأثر. لقد جسّد التزامه بهويته الأمازيغية من خلال كل أعماله، وكان يرفض أي تمييع أو تذويب للثقافة التي ينتمي إليها. هذا الالتزام لم يكن مجرد شعارات، بل فعلًا يوميًا، بدءًا من اختياره اللغة الأمازيغية في كتاباته وأعماله، إلى طريقة لباسه وحديثه في اللقاءات الإعلامية.
وقد شكلت أشرطته الدينية والأناشيد وسيلة فعالة في الحفاظ على اللغة الأمازيغية في وجدان الناس، في وقت كانت فيه تعاني من التهميش الإعلامي والثقافي.
أوتفنوت يدخل عالم السينما.. عندما تحكي الكاميرا هوية
سنة 1995 شكّلت تحولًا حاسمًا في مسار الفنان عبد الرحمان بورحيم، حين اقتحم عالم السينما الناطقة بالأمازيغية. وكان لهذا القرار وقعٌ كبيرٌ في المشهد الثقافي المغربي، إذ لم تكن السينما الأمازيغية وقتها قد وجدت موطئ قدم ثابت في الساحة الفنية.
ومن بين أبرز أعماله السينمائية:
- بوتفوناست
- تامغارت وورغ
- الدونيت
هذه الأفلام لم تكن مجرّد إنتاجات تجارية، بل كانت وثائق مرئية تنقل الواقع الأمازيغي، وتحاكي التقاليد، وتنثر رسائل اجتماعية راقية. وبهذه الأعمال، دخل أوتفنوت كل بيت أمازيغي، ورسّخ اسمه كأحد بناة السينما الثقافية ذات البعد الهوياتي.
بين الكلمة والصورة.. شاعر الفن المتكامل
ما ميز عبد الرحمان بورحيم أيضًا هو تعدد أدواته التعبيرية. فقد كان شاعرًا، يكتب النصوص بروح شعبية حقيقية، ويترجم مشاعر الناس بلغة بسيطة لكنها مؤثرة. وكان سيناريستًا قادرًا على نسج قصص متينة بقوالب درامية قريبة من الجمهور، كما كان ممثلًا يُجيد تقمص الأدوار الشعبية ببراعة فطرية.
هذا التكامل بين الكلمة والصورة جعله فنانًا استثنائيًا، يصعب تصنيفه في خانة واحدة. ومهما اختلفت أدواته، فإن الهدف ظل واحدًا: إبراز الجمال في ثقافة الشعب، وتحويل المعاناة إلى طاقة إبداعية متجددة.
وفاة أوتفنوت.. غياب جسد وحضور خالد
في صباح الجمعة، الموافق 23 مايو / أيار 2025، أسدل الستار على حياة الفنان عبد الرحمان بورحيم. لم يكن مجرد خبر وفاة، بل زلزالًا عاطفيًا في قلوب محبيه ومتابعيه. وبمجرد إعلان خبر رحيله، عجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمنشورات الحزن والرثاء، من محبين، فنانين، ومؤسسات ثقافية.
غادرنا أوتفنوت، لكن إرثه باقٍ، وستبقى أشرطته، كلماته، وأفلامه، شاهدًا على مسيرة فنان وهب حياته للفن والهوية والصدق الإبداعي.
ماذا بعد أوتفنوت؟ إرث ثقافي يحتاج من يصونه
برحيل عبد الرحمان بورحيم، تفتح الساحة الثقافية المغربية على تساؤلات جوهرية:
- هل لدينا مؤسسات تحفظ تراث هذه القامات الفنية؟
- هل نُعلّم أبناءنا في المدارس عن أوتفنوت ومن معه؟
- هل تحظى السينما الأمازيغية بالدعم الذي يليق بها؟
الأجوبة على هذه الأسئلة ستحدد مستقبل الفن الأمازيغي في مغرب الغد، وتُظهر مدى وعينا الجماعي بأهمية الحفاظ على رموزنا الثقافية.
الختام: حين يكون الفنان ذاكرةً وقضية
لم يكن عبد الرحمان أوتفنوت فنانًا تقليديًا، بل كان حالةً فنيةً وثقافيةً فريدة، تستحق التوثيق والاحتفاء والبحث. هو درس في الوفاء للهوية، وفي مقاومة التهميش بالفن، وفي تحويل الإبداع إلى فعل سياسي وثقافي وإنساني.
رحيله يوجع، لكنه أيضًا يذكّرنا بأن الفنان حين يُخلص لهويته، لا يموت أبدًا. بل يظل حاضرًا في الحروف، في الصورة، وفي ذاكرة الأجيال.