من هو الاستاذ نور الدين عيساوي ويكيبيديا: سيرة أستاذ الرياضيات الذي هزم الفقر وصنع مجده من الطين
في زمن أصبحت فيه المعرفة سلعة باهظة، وتحوّلت المعلومة إلى مشروع ربحي، برز الأستاذ نور الدين عيساوي كاستثناء حيّ، يُدرّس دون مقابل، ويُعطي بلا حدود. هو ليس مجرّد أستاذ رياضيات على «يوتيوب»، بل هو أيقونة تعليمية وإنسانية خالدة، حكاية تتقاطع فيها المآسي مع الأمل، والعزيمة مع الفقر، والصمت القروي مع صخب المنصات الرقمية.
أن يولد الإنسان في كوخ طيني بلا كهرباء، يرعى الغنم ويجمع الحطب، ثم يتحوّل إلى اسم يُردد في كل بيت عربي يبحث عن فهمٍ للرياضيات… فهذه ليست مجرد قصة نجاح، بل ملحمة صعود تبدأ من الحضيض إلى القمة، ويكتبها أستاذ اسمه: نور الدين عيساوي.
من هو الاستاذ نور الدين عيساوي ويكيبيديا: نشأة قاسية في أحضان الطبيعة
ولد نور الدين عيساوي في 18 ديسمبر / كانون الأول 1975، في قرية نائية بولاية عين الدفلى الجزائرية. نشأ يتيم الأم، لم يرَ وجهها يومًا، لا في صورة ولا حتى ذكرى، كما فقد والده لاحقًا في نهاية عام 2024. منذ طفولته، عايش كل معاني القسوة: فقر، عزلة، شقاء يومي، وبيئة لا تعترف بالحلم.
كان يومه يبدأ برعي الأغنام، يتنقل بين الحقول والغابات، يجمع الحطب من أجل الطهي والتدفئة. لم تكن لديه ألعاب، بل عصا الراعي كانت صديقًا، وأغاني العصافير كانت موسيقاه الوحيدة. ومع ذلك، كان يحمل في قلبه شيئًا مختلفًا: فضول فطري، وعطش للمعرفة لا يرويه إلا الكتاب.
التعليم.. معركة ضد المجهول
حين قرر الالتحاق بالمدرسة، واجه رفضًا قاطعًا من والده، الذي رأى في التعليم ترفًا لا يناسب الفقراء. قام الأب بتمزيق حقيبته المدرسية، وأجبره على العودة للرعي. لكن المعلمين وأقاربه تدخلوا، وأقنعوا الأب بإعادة ابنه إلى المدرسة. يومها دخل نور الدين إلى الفصل حافيًا، لكنه كان أكثر التلاميذ شغفًا.
بعد انقطاع دام عامين بسبب الظروف، عاد عيساوي إلى مقاعد الدراسة، فاحتل المرتبة الأولى في فصله، وسرعان ما أصبح حديث المعلمين والطلبة. كان يقطع يوميًا 14 كيلومترًا سيرًا على الأقدام للوصول إلى المدرسة، في مسار متعرج يمر بالغابات والوديان، لكنه لم يتأخر يومًا.
من الثانوية إلى البكالوريا: ولادة نجم
في عام 1997، حصل على شهادة البكالوريا، محققًا حلمه رغم كل العوائق. اختار أن يلتحق بالمدرسة العليا للأساتذة في ولاية الأغواط، وهي محطة مفصلية في حياته. هناك، لم تكن الحياة الجامعية أسهل؛ إذ بدأ يعمل حلاقًا لزملائه في الحي الجامعي مقابل مبالغ رمزية، لتغطية مصاريفه، دون أن يتوقف يومًا عن إرسال الدعم المالي لوالده.
رغم البعد والغربة، وجد نور الدين في الحي الجامعي بيئة محفّزة، وأصدقاء دعموا حلمه، وأساتذة رأوا فيه مشروع معلم فذّ. هناك صقل مهاراته التربوية، وتعلم كيف يشرح المادة بلغة مبسطة، وهو الأسلوب الذي سيميّزه لاحقًا على يوتيوب.
بداية مشواره في التعليم
بعد تخرّجه، بدأ مشواره المهني في ثانوية تبعد أكثر من 20 كيلومترًا عن مقر سكناه. لم تكن وسيلة نقل متاحة له، فكان يقطع الطريق مشيًا أو يستقل شاحنات المزارعين. ومع ذلك، لم يتغيب عن حصة واحدة. كان يعطي دروسه بنفس الحماس، يتعامل مع تلاميذه وكأنهم أولاده.
تنقل بين مدارس وثانويات عدّة، وشيئًا فشيئًا ذاع صيته كمعلّم استثنائي. كان يُعطي من قلبه، ويتواصل مع الطلبة بعد الدوام، ويشرح المسائل لأكثر من مرة دون ملل. وكان أول أستاذ جامعي من عائلته وقريته.
قناته على يوتيوب: ثورة في التعليم
في عام 2013، أنشأ الأستاذ نور الدين قناته على يوتيوب. لم يكن يملك سوى جهاز قديم وكاميرا بسيطة، لكنه بدأ في تسجيل دروسه بطريقة مبسطة، بلغة عربية خالصة، خالية من التعقيدات. انتشرت فيديوهاته بسرعة، لأنها كانت تمس جوهر المشكلة: كيف نفهم الرياضيات بذكاء لا بحفظ؟
بفضل إخلاصه، تحوّلت القناة إلى مرجع رئيسي لطلبة البكالوريا في الجزائر، وامتد تأثيرها إلى دول عربية عدة. تجاوز عدد المشتركين 3 ملايين، وتخطت مشاهدات الفيديوهات مئات الملايين. لكن الأهم من ذلك، أنها فتحت أبواب الفهم لعقول كثيرة كانت تهاب الرياضيات.
من مقهى مهجور إلى فصل مجاني
لم يكتفِ نور الدين بالتعليم الرقمي، بل حوّل مقهى شعبي مهجور إلى فصل دراسي حقيقي. أصلح الجدران بيده، جلب الطاولات والكراسي، وأطلق عليه اسم “القسم المجاني”. كان يقدّم فيه دروس الدعم لأبناء العائلات الفقيرة، ويرفض طرد أي تلميذ بسبب العجز عن دفع الاشتراك الرمزي.
ومن مواقفه المؤثرة، رفضه أخذ أموال من فتاة فقيرة باعت أمها سلسلتها الذهبية لتدفع رسوم الحصة، وقال لها: “اشتري حجابًا جديدًا بدلًا من ذلك، العلم لا يُشترى”. لم تكن هذه لقطة درامية، بل موقفًا متكرّرًا في حياة هذا المعلم الإنسان.
رد الجميل.. الوفاء للمعلمين
ظل الأستاذ نور الدين عيساوي وفيًّا للمعلمين الذين آمنوا به في صغره. خصص حصصًا مجانية لأستاذه القديم “أحمد”، الذي كان قد أعاده من الغابة إلى المدرسة ذات يوم، راكبًا على حماره. قال في إحدى مقابلاته: “لن أستطيع رد الجميل لهذا الرجل أبدًا، لكنه علمني أن كلمة طيبة قد تغيّر مصيرًا”.
بين الإعلام والضوء.. بقي كما هو
رغم الشهرة الكبيرة التي نالها، بقي نور الدين عيساوي بسيطًا في مظهره، متواضعًا في لغته، يرفض الأضواء التي تسعى لتحويله إلى سلعة. لم يُغلق قناة يوتيوب خلف جدران الاشتراكات المدفوعة، ولم يتحوّل إلى رجل أعمال رغم العروض. كان يردّد دائمًا: “أنا أستاذ… وسأبقى أستاذًا”.
إرث تربوي وإنساني خالد
إن ما يقدمه الأستاذ نور الدين عيساوي يتجاوز فكرة شرح الدروس. هو ينقل قيما، يغرس مبادئ، يصنع أملاً جديدًا. لا يتحدث فقط عن المشتقات أو المعادلات، بل عن الحلم والمثابرة والكرامة. يرى أن مهمته هي بناء الإنسان قبل العالم.
خاتمة: حين يصنع الإنسان مجده بالعلم
قصة الأستاذ نور الدين عيساوي هي شاهد حي على أن الأبطال ليسوا فقط من يحملون السلاح أو يكتبون الشعر، بل من يرفعون الأقلام ويزرعون الأمل في عقول أجيال كاملة. هو المعلم الذي أعاد تعريف معنى التعليم في زمن الرقمنة، المعلم الذي خرج من رحم المعاناة ليعلّمنا أن الحلم لا سقف له.
من عين الدفلى إلى ملايين البيوت العربية، ومن سبورة خشبية في كوخ إلى شاشة مضيئة تشرح أعقد الدروس، بقي نور الدين رمزًا لا يُنسى. لم يمتلك مالاً أو شهرة في البداية، لكنه امتلك أعظم ما يمكن أن يُعطى: رسالة، وصدق، وحلم.