مشاهير

قصة بيناتنا.. مسرحية تونسية تستلهم واقع الأحياء الشعبية وتكشف قسوة الميراث

بين الضجيج المتراكم في الزوايا المعتمة للأحياء الشعبية التونسية، وبين الجدران التي تسمع ولا تنطق، وُلدت مسرحية “بيناتنا”، كعمل مسرحي لا يشبه غيره، عمل كُتب بدم القلب وعَرق الواقع.

عرض جديد تقدمه فرقة مسرحية تونسية، كصرخة فنية تقاوم الصمت، وتجسد مأساة صراعات الميراث في المجتمع التونسي، لا من منطلق الحكاية فقط، بل من رحم الشارع، ومن ذاكرة المعاناة الاجتماعية، التي سكنت المخرج حازم البوهلالي منذ كان طفلاً يجوب أزقة الحي الذي نشأ فيه.

على خشبة مسرح التياترو بتونس العاصمة، تنفجرت الليلة الأولى بتجريب عرض “بيناتنا”، ليلة الثلاثاء، حيث انشدت العيون، وتاهت الأنفاس، واهتزت القلوب، خلال 70 دقيقة من التوتر الدرامي والانفعال الشعوري.
وها نحن اليوم نغوص في تفاصيل هذا العرض الذي يتجاوز كونه تمثيلًا، إلى صرخة مجتمع يبحث عن العدالة والدفء بين إخوة يتناحرون على تركة رجل لم يمت بعد.

من أين جاءت “بيناتنا”؟ حكاية الفكرة التي كبرت بصمت

البذرة الأولى.. من وجع الحي إلى وهج الخشبة

حين يتحدث المخرج حازم البوهلالي عن مسرحيته، لا يتحدث كفنان عن منتج فني، بل كإنسان عاش الألم قبل أن يصوّره.
يقول إن فكرة “بيناتنا” ولدت قبل سنوات من دخوله رسميًا إلى عالم المسرح، وكان يحملها كعبء يومي، كرغبة عميقة في نقل صورة واقعية لواقع الأحياء الشعبية في تونس.

أحياء لا تُروى حكاياتها في التلفاز، ولا تُعرض في المهرجانات، لكنها تعيش في كل شارع وحي.

فيها الحرمان، والعنف، والعلاقات الأسرية الممزقة بفعل الفقر والطمع والجهل. ومن هذا السياق، اختار البوهلالي أن يبدأ من أكثر المواضيع حساسية في المجتمع التونسي: الميراث.

حكاية الميراث.. دراما تتكرر آلاف المرات لكنها نادراً ما تُروى بهذا الصدق

بين القانون والعاطفة.. من يربح المعركة؟

في المسرحية، نرى أبًا على قيد الحياة، عاجزًا أمام أطفاله الذين ينقضّون على ميراثه قبل أن يوارى الثرى.
ثلاثة أبناء، وابنة واحدة هي “نادية”، تؤدي دورها ببراعة الفنانة آمنة الغربي، يتنازعون على الحصص والحقوق، على العقار والحساب البنكي، متناسين الأب الذي ربّاهم وكافح لأجلهم.

نزار الكشو، الذي أدى دور الأب، جسد الصدمة والانهيار بإتقان لافت.

عيناه المشبعتان بالقهر، ووقفته المرتبكة بين الندم واليأس، جعلت الجمهور يشعر بثقل اللحظة، وكأن الأب هو المجتمع بأكمله، يشاهد أبناءه وهم يأكلون بعضهم باسم الشرع والقانون، بينما تغيب القيم والرحمة.

مشاهد درامية متسلسلة على حبل التوتر

  • 70 دقيقة من الانفعال المكثف
  • طيلة العرض الذي دام 70 دقيقة، لم يهدأ التوتر.
  • حمدي الضيف، بشير الماجري، ونزار الكشو، مع نخبة من الممثلين الشباب، قدّموا عرضًا قائمًا على الانفجارات النفسية، والشتائم، والصراخ، والسكوت المفاجئ الذي يقول أكثر من أي كلمة.
  • كان النص ذكيًا في تقلباته، وفي تنقله بين المشهد الواقعي والمشهد المتخيّل، بين ما يقال فعلًا، وما يجري في الداخل بصمت.
  • أحيانًا تسكت الشخصيات، لكن الموسيقى، أو نظراتهم، كانت تتحدث بوضوح مخيف.

المسرح كمرآة للمجتمع.. ماذا أراد “بيناتنا” أن يقول؟

صراع الأحياء.. صراع طبقي وفكري وعقائدي

  • “بيناتنا” ليست مسرحية عن الميراث فقط، بل هي عن أزمة مجتمع يبحث عن قيمه في زمن الفوضى.
    رأينا في العرض:
  • الابن الذي يريد التملك لأنه الأكبر.
  • الابنة التي تُقصى فقط لأنها أنثى.
  • الطائفية والعقائدية التي تفجّر البيت الواحد.
  • الإرث الذكوري السلطوي الذي يهيمن على عقول الأبناء.
  • هذا ما جعل العرض لا يُقرأ فقط كمشهد عائلي داخلي، بل كمجاز كبير يمثّل تونس، وربما العالم العربي بأكمله.

بين الواقعية والخيال.. دمج فني بحرفية عالية

المخرج حازم البوهلالي تعمّد إدخال عناصر من الخيال ضمن القصة الواقعية، لكنه لم يفعل ذلك هروبًا من الواقع، بل تعبيرًا عنه بطريقته الخاصة.

المشاهد أحيانًا ينتقل من مطبخ بسيط في الحي الشعبي إلى عوالم رمزية داخل ذهن الأب أو البنت.

تتداخل المشاهد بين الحلم والكوابيس والواقع، وكأن المخرج يقول:

“ما يحدث في أذهاننا لا يقل واقعية عن ما يحدث أمامنا”.

الأداء الجماعي.. فريق يلعب بتناغم قاتل

  • أسماء لامعة تتقن الصمت كما تتقن الكلام

أبرز من أدوا الأدوار الرئيسية:

  • نزار الكشو: الأب، البطل الصامت، الذي تحوّل في بعض المشاهد إلى متفرج داخل منزله.
  • آمنة غربي (نادية): أدت الشخصية النسائية الوحيدة بقوة مدهشة، جسدت الألم والغضب والخذلان.
  • حمدي الضيف، بشير الماجري: أبناء الصراع، كل منهم يحمل رؤيته لما يعتقد أنه حقه.
  • الفريق بأكمله عمل بتناغم شديد، رغم كثافة المشاهد، وتعقيد النص، ونجح في حمل العمل فوق أكتافه حتى النهاية.

عرض تجريبي ينتظر الافتتاح الرسمي.. إلى أين تتجه “بيناتنا”؟

بعد النجاح الكبير الذي حصدته المسرحية في العرض التجريبي على مسرح التياترو بتونس العاصمة، من المرتقب أن تُعلن شركة “ميرو آرت” للإنتاج والتوزيع، عن موعد الافتتاح الرسمي خلال الأسابيع المقبلة.

الجمهور ينتظر معرفة مواعيد العروض الجديدة، وقد تتجه الشركة لتقديم جولات عروض داخل وخارج تونس في حال لاقت المسرحية دعمًا من الجهات الثقافية.

فقرة ختامية: بيناتنا.. ليس بيننا فقط، بل بيننا وبين وطننا

  • “بيناتنا” ليست فقط عنوانًا لمسرحية، بل هي جملة ثقيلة بالمعاني.
  • بيننا وبين أهلنا، بيننا وبين إخوتنا، بيننا وبين قوانين لا تُنصف، بيننا وبين أنفسنا.
  • ما قدمه حازم البوهلالي وفريقه، لم يكن مجرد تمثيل، بل مساءلة مفتوحة للواقع، طرحوا سؤالًا كبيرًا:
  • هل ورثنا قلوبًا أم جدرانًا؟ هل صرنا نحمل بعضنا كعبء أم نُكمل بعضنا كأهل؟
  • على خشبة التياترو، كان العرض مجرد بداية، لكن الرسالة تتسع لتصل إلى كل بيت تونسي، وعربي، يسكنه النزاع بدل الحب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى